اتفاقية باريس للمناخ: رحلة إنقاذ الكوكب
الإطار الدولي التاريخي لمكافحة تغير المناخ والتحول نحو مستقبل مستدام
مقدمة تاريخية عن اتفاقية باريس
اتفاقية باريس للمناخ، المعروفة رسمياً باسم “اتفاق باريس”، هي معاهدة دولية تاريخية تم اعتمادها في 12 ديسمبر 2015 خلال مؤتمر الأطراف الحادي والعشرين (COP21) في باريس. دخلت الاتفاقية حيز التنفيذ في 4 نوفمبر 2016 بعد أن صدقت عليها 55 دولة تمثل 55% على الأقل من انبعاثات غازات الدفيئة العالمية. تعتبر هذه الاتفاقية أول إطار دولي شامل وشامل يجمع جميع الدول حول هدف مشترك لمكافحة تغير المناخ.
حقيقة تاريخية
تم التوصل إلى اتفاق باريس بعد ست سنوات من فشل مؤتمر كوبنهاغن للمناخ في 2009، حيث نجحت الدبلوماسية الفرنسية في جمع 196 دولة حول طاولة المفاوضات. تميزت العملية بالشفافية والإصرار على إشراك جميع الدول، بما في ذلك الدول النامية والجزر الصغيرة المهددة بالاختفاء.
تأتي اتفاقية باريس كاستمرار لمسار المفاوضات الدولية حول المناخ التي بدأت مع اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ (UNFCCC) في 1992، وبروتوكول كيوتو في 1997. لكن ما يميزها هو شموليتها حيث تلتزم جميع الدول – المتقدمة والنامية – باتخاذ إجراءات للحد من انبعاثات غازات الدفيئة، على عكس بروتوكول كيوتو الذي فرض التزامات فقط على الدول المتقدمة.
تمثل الاتفاقية تحولاً جوهرياً في النهج الدولي لمواجهة تغير المناخ، حيث تعتمد على مبدأ “المسؤولية المشتركة لكن المتباينة” الذي يعترف باختلاف قدرات الدول ومسؤولياتها التاريخية في التسبب بأزمة المناخ. كما تدمج الاتفاقية مفاهيم العدالة المناخية وضرورة دعم الدول النامية في مسارها نحو التنمية المستدامة.
الأهداف الرئيسية للاتفاقية
تحدد اتفاقية باريس ثلاثة أهداف رئيسية مترابطة تشكل الإطار العام للعمل المناخي الدولي:
الحد من ارتفاع درجة الحرارة
- إبقاء ارتفاع متوسط درجة الحرارة العالمية أقل من 2°م فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية
- السعي للحد من ارتفاع الحرارة إلى 1.5°م
- تجنب الآثار الكارثية لتغير المناخ
تعزيز القدرة على التكيف
- زيادة قدرة الدول على مواجهة آثار تغير المناخ
- خفض مستوى التعرض للمخاطر المناخية
- تحقيق تنمية مراعية للمناخ
توجيه التدفقات المالية
- جعل التدفقات المالية متوافقة مع مسار تنمية منخفض الانبعاثات
- تعبئة 100 مليار دولار سنوياً لدعم الدول النامية
- تحقيق التوازن بين التمويل للتخفيف والتكيف
تستند هذه الأهداف إلى أفضل العلوم المتاحة، حيث أكدت الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) أن تجاوز ارتفاع درجة الحرارة 1.5°م سيؤدي إلى عواقب لا رجعة فيها، مثل اختفاء الشعاب المرجانية وارتفاع مستوى البحر بشكل كارثي وزيادة تواتر الظواهر المناخية المتطرفة.
هدف درجة الحرارة | الآثار المتوقعة | الانبعاثات المتبقية | الوقت المتبقي عند معدل الانبعاثات الحالي |
---|---|---|---|
1.5°م | أضرار محدودة على النظم البيئية والمجتمعات | 500 مليار طن CO₂ | 12 عاماً |
2°م | اختفاء الشعاب المرجانية، ارتفاع مستوى البحر 0.5م | 1500 مليار طن CO₂ | 35 عاماً |
3°م | أضرار كارثية لا رجعة فيها | غير محدد | 50 عاماً |
آليات العمل والتنفيذ
تعتمد اتفاقية باريس على مجموعة من الآليات المبتكرة لتحقيق أهدافها:
المساهمات المحددة وطنياً (NDCs)
- التزامات طوعية تقدمها كل دولة كل 5 سنوات
- تتضمن أهدافاً للحد من الانبعاثات والتكيف مع المناخ
- مبدأ “التصاعدية” – تعزيز الأهداف في كل دورة
إطار الشفافية المعزز
المراقبة والإبلاغ
- أنظمة موحدة لقياس الانبعاثات
- تقارير دورية عن التقدم المحرز
- مراجعة دولية للبيانات المقدمة
المساءلة
- آلية متعددة الأطراف للمراجعة
- حوار تيسيري لتقييم التقدم الجماعي
- تحديث المساهمات الوطنية كل 5 سنوات
الدعم الدولي
- تمويل المناخ: 100 مليار دولار سنوياً
- نقل التكنولوجيا النظيفة
- بناء القدرات في الدول النامية
تشكل آلية المساهمات المحددة وطنياً (NDCs) قلب اتفاقية باريس، حيث تقدم كل دولة خطة وطنية توضح كيفية مساهمتها في تحقيق أهداف الاتفاقية. وتشمل هذه المساهمات عادةً أهدافاً للحد من انبعاثات غازات الدفيئة، وإجراءات التكيف مع تغير المناخ، واحتياجات الدعم المالي والتقني.
التقدم المحرز والتحديات
المؤشر | الوضع الحالي | الهدف المطلوب | الفجوة |
---|---|---|---|
انبعاثات غازات الدفيئة العالمية | ارتفاع بنسبة 14% منذ 2010 | انخفاض 45% بحلول 2030 | فجوة كبيرة |
تمويل المناخ للدول النامية | 83 مليار دولار (2020) | 100 مليار دولار سنوياً | 17 مليار دولار |
تغطية المساهمات الوطنية | 193 دولة قدمت NDCs | 196 دولة | 3 دول |
الالتزام بتحييد الكربون | 136 دولة | جميع الدول بحلول 2050 | 60 دولة |
درجة الحرارة المتوقعة بحلول 2100 | 2.7°م | 1.5°م | 1.2°م |
تظهر أحدث تقارير برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP) أن:
- المساهمات الحالية غير كافية لتحقيق هدف 1.5°م، حيث تؤدي إلى ارتفاع 2.7°م بحلول 2100
- الانبعاثات العالمية بلغت رقماً قياسياً عام 2023 بمقدار 37 مليار طن من CO₂
- الدول المتقدمة لم تفِ بالتزامات التمويل حيث بلغت الفجوة التمويلية 17 مليار دولار
- الدول الجزرية الصغيرة تدفع الثمن الأكبر رغم مساهمتها بأقل من 1% من الانبعاثات
التحديات الرئيسية
تواجه اتفاقية باريس عدة تحديات تعيق تحقيق أهدافها:
- عدم كفاية الطموح في المساهمات الوطنية الحالية
- فجوة تمويلية كبيرة في دعم الدول النامية
- عدم توازن بين تمويل التخفيف وتمويل التكيف
- تأثيرات جائحة كوفيد-19 والحروب على التقدم المحرز
- عدم وجود آليات عقابية للدول التي لا تفي بالتزاماتها
الإنجازات والنجاحات
رغم التحديات، حققت اتفاقية باريس عدة إنجازات مهمة:
إجماع عالمي غير مسبوق
موافقة 196 دولة على الإطار الدولي للمناخ، بما فيها كبرى الدول الملوثة مثل الصين والولايات المتحدة والهند.
تحول في سياسات الطاقة
تسريع التحول نحو الطاقة المتجددة، حيث أصبحت الآن أرخص من الوقود الأحفوري في معظم دول العالم.
التزامات تحييد الكربون
التزام 136 دولة بتحقيق صافي انبعاثات صفرية بحلول منتصف القرن، تغطي 83% من الانبعاثات العالمية.
إطار قانوني دولي
إنشاء نظام شفافية معزز وآليات مراجعة دولية لضمان المساءلة والمصداقية.
تأثير على القضاء
زيادة الدعاوى القضائية المناخية ضد الحكومات والشركات التي لا تفي بالتزاماتها المناخية.
نجاحات بارزة
بعض الأمثلة على نجاحات ملموسة تحققت بفضل اتفاقية باريس:
- الاتحاد الأوروبي: تشريع “الصفقة الخضراء” لتحقيق الحياد الكربوني بحلول 2050
- الصين: أكبر مستثمر في الطاقة المتجددة عالمياً، وهدف تحقيق الحياد الكربوني بحلول 2060
- الهند: زيادة قدرات الطاقة الشمسية من 3 جيجاوات إلى 70 جيجاوات خلال 10 سنوات
- كوستاريكا: توليد 98% من الكهرباء من مصادر متجددة
الطريق إلى الأمام
تتعاون الدول حول العالم لتعزيز تنفيذ اتفاقية باريس من خلال عدة مسارات:
تحديث المساهمات الوطنية
يجب على جميع الدول تعزيز طموح مساهماتها الوطنية (NDCs) بشكل كبير خلال دورات التحديث كل 5 سنوات، خاصة في ضوء تقارير IPCC الأخيرة التي تؤكد ضرورة خفض الانبعاثات 45% بحلول 2030 للبقاء ضمن 1.5°م.
سد الفجوة التمويلية
يجب على الدول المتقدمة الوفاء بتعهدها بتقديم 100 مليار دولار سنوياً، مع زيادة هذا المبلغ بدءاً من 2025. كما يجب تحقيق توازن أفضل بين تمويل التخفيف وتمويل التكيف مع المناخ.
دور المجتمع المدني: يمكن للمواطنين الضغط على حكوماتهم لتعزيز التزاماتها المناخية، ودعم السياسات الخضراء، وتبني أنماط حياة مستدامة، والمشاركة في حركات المناخ العالمية.
تمثل اتفاقية باريس أفضل أمل للبشرية في مواجهة التحدي الوجودي المتمثل في تغير المناخ. رغم التحديات الكبيرة، فإن الإطار القانوني الدولي والالتزام السياسي غير المسبوق يوفران الأساس لتحول جذري نحو مستقبل مستدام. مع تعزيز الطموح المناخي وتسريع التنفيذ خلال السنوات الحاسمة القادمة، يمكن للعالم أن يظل ضمن مسار 1.5°م ويجنب الأجيال المقبلة أسوأ آثار أزمة المناخ.